يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد :
«
ما هو مفهوم الخيال أو البرزخ عند ابن عربي ؟
يرفض
ابن عربي أي تصور يؤدي إلى وجود أي تعدد في مفهوم البرزخ أو الخيال . إنه من حيث
ذاته يجب أن يكون واحداً . ومن حيث توسطه بين طرفين متقابلين يجب أن يقابل كلا
منهما بذاته لا بوجهين مختلفين متوحدين ، إذ لو كان للبرزخ وجهان يقابل بكل واحد
منهما جانباً من جانبي الطرفين اللذين يتوسط بينهما لكان هناك فاصل بين وجهيه أو
جانبيه . وكان هذا الفاصل بدوره برزخاً داخل البرزخ ، أو وسيطاً داخل الوسيط ، مما يؤدي إلى تعدد مفهوم البرزخ ، أو يؤدي إلى التسلسل إلى مالا نهاية . إن البرزخ يجب أن يكون واحداً في ذاته غير منقسم . ويجب أن يقابل الطرفين اللذين يتوسط بذاته الواحدة ، ولذلك فهو يجمع بينهما بذاته ، أو لنقل يوحد بينهما . ومعنى ذلك أن البرزخ يؤدي وظيفة التوحيد بين المتقابلات ، وهو لا يفعل ذلك بطريقة صناعية تمزج بينهما كما يمزج اللون الرمادي بين الأبيض والأسود ، بل يفعل ذلك بذاته ، فهو الأبيض بذاته والأسود في ذاته .
جانبيه . وكان هذا الفاصل بدوره برزخاً داخل البرزخ ، أو وسيطاً داخل الوسيط ، مما يؤدي إلى تعدد مفهوم البرزخ ، أو يؤدي إلى التسلسل إلى مالا نهاية . إن البرزخ يجب أن يكون واحداً في ذاته غير منقسم . ويجب أن يقابل الطرفين اللذين يتوسط بذاته الواحدة ، ولذلك فهو يجمع بينهما بذاته ، أو لنقل يوحد بينهما . ومعنى ذلك أن البرزخ يؤدي وظيفة التوحيد بين المتقابلات ، وهو لا يفعل ذلك بطريقة صناعية تمزج بينهما كما يمزج اللون الرمادي بين الأبيض والأسود ، بل يفعل ذلك بذاته ، فهو الأبيض بذاته والأسود في ذاته .
إن
البرزخ كما يمثله ابن عربي ... بالبياض والإنسانية هو الكليات المعقولة التي تستدعي
إلى الذهن حقيقة الحقائق أحد مراتب هذا البرزخ كما سنرى . إنه موجود عقلي وليس
موجوداً حسياً عينياً ، ولذلك فهو يُعقل ولا يُشهد ويُعلم ولا يُدرك ، أنه حضرة
تتوسط بين حضرتين بالمعنى العقلي لا بالمعنى المكاني المحسوس ، وهذه هي طبيعته
الخاصة . أما وظيفته فهي الفصل بين الأمرين والتوسط بينهما في نفس الوقت ، الفصل
بينهما باعتبار وحدته الخاصة ، ووجوده بذاته – في كل من الطرفين
المتقابلين . البرزخ بهذا المفهوم مجرد تصور ذهني واحد في ذاته يقوم بوظيفتي الوصل
والفصل . وهذا المفهوم يجعل ابن عربي قادراً على إعطاء البرزخ – أو الخيال – بعداً وجودياً –
بالمعنى العقلي – دون أن يقع في أي كثرة حقيقية بالمعنى الحسي العيني . إن الخيال
هو الفاصل بين الذات الإلهية والعالم ، فهو بذلك يؤكد التمايز والثنائية ، وهو من
جانب آخر يتوسط بينهما بذاته ، ويلتقي بكل منهما بذاته فيوحد بينهما .
إن
الخيال أو البرزخ قابل لكل الصفات المتقابلة ، وجامع لكل الثنائيات المتعارضة .
وإذا كان ابن عربي – كما قلنا – ينطلق من ثنائية أولية بين الذات
الإلهية والعالم ، فإن الوسيط القادر على تلقي طرفي هذه الثنائية بذاته هو الخيال
. والخيال بهذا الفهم حقيقة كلية معقولة تتوسط بين كل ما يتفرع عن هذه الثنائية
الأولية من ثنائيات ثانوية أو فرعية . وإذا كان الخيال باعتبار حقيقته العقلية
يتحد بحقيقة الحقائق فهو من حيث وظيفته البرزخية من الجمع بين الأضداد والقابلية
للوصف بكل المتعارضات يتوحد بالألوهة التي هي جماع الأسماء الإلهية . ومن السهل – كما
سنرى – أن يلتقي مفهوم الخيال أيضاً بحقيقة العماء وبالحقيقة المحمدية . وهذه
هي الحقيقة المعقولة – الخيال –
يمكن أن تسمى بهذه الأسماء كلها . وتعدد الأسماء عليها إنما يدل على جوانب مختلفة
لذات الحقيقة الواحدة التي لا تكثر فيها بأي حال من الأحوال . وإلى جانب الأسماء
السابقة يمكن أن يطلق عليها اسم عالم الجبروت أي العالم الفاصل بين عالم الملك
وعالم الملكوت ، أو عالم الشهادة وعالم الغيب ( فإن قلت وما عالم البرزخ قلنا عالم
الخيال ويسميه أهل الطريق عالم الجبروت . وهكذا هو عندي ) ([1]) .
ومعنى ذلك أن مفهوم الخيال لا يقتصر على الوسائط الأربع التي
يطلق عليها ابن عربي الخيال المطلق ، بل يمتد ليشمل كل الوسائط ابتداءً من عالم
الخيال المطلق وانتهاءً إلى عالم الحس المدرك .
ويمكننا
أن نميز مع ابن عربي بين جانبين لهذه الحقيقة المعقولة التي يطلق عليها اسم الخيال
أو البرزخ أو عالم الجبروت . الجانب الأول يتصل بالخيال بالمعنى السيكولوجي ،
باعتباره أداة إنسانية للإدراك والمعرفة . والجانب الثاني ما يمكن أن نطلق عليه
الخيال الوجودي بجانبه الفيزيقي والميتافيزيقي . هذان الجانبان يطلق عليهما ابن
عربي الخيال المتصل والخيال المنفصل . والعلاقة بينهما ليست علاقة انفصال أو تميز
، بل الأحرى القول إنهما جانبان لحقيقة واحدة ، وأن العلاقة بينهما هي علاقة الجزء
( المتصل ) بالكل ( المنفصل ) . وإذا كان أبو العلا عفيفي قد أدرج كلاً من الخيال
المفصل والمتصل تحت نوع الخيال السيكولوجي رغم انتباهه لوجود الخيال الميتافيزيقي
.
فإننا
من جانبنا نوحد مع ابن عربي بين الخيال المنفصل والخيال الوجودي بجانبه الفيزيقي
والميتافيزيقي ، ونعتبر أن الخيال المتصل وحده ما يمكن أن نطلق عليه الخيال
بالمعنى السيكولوجي . يقول ابن عربي : ( إن المتصل يذهب بذهاب المتخيل والمنفصل
حضرة ذاتية قابلة دائماً للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها ، لا يكون غير ذلك .
ومن هذا الخيال المنفصل يكون الخيال المتصل . والخيال المتصل على نوعين : منه ما
يوجد عن تخيل ، ومنه مالا يوجد عن تخيل كالنائم ما هو عن تخيل ما يراه من الصور في
نومه والذي يوجد ما يمسكه الإنسان في نفسه من مثل ما أحس به أو صورته القوة
المصورة إنشاء لصورة لم يدركها الحس من حيث مجموعها ، لكن جميع آحاد المجموع لا بد
أن يكون محسوساً ) ([2])
.
إن الخيال المتصل يرتبط بالمتخيل ويذهب بذهابه . والمتخيل
في هذه الحالة هو الإنسان
، والخيال المتصل هو الخيال بالمعنى السيكولوجي . هذا الخيال قد يكون عن غير تخيل
، مثل الصور التي يراها الإنسان في حالة النوم . هذه الصور لا تتشكل بفعل إرادي بل
تتم بطريقة عفوية حين تسكن الحواس وتنشط هذه القوة في الإنسان بفعل النوم . أما
الخيال الناتج عن تخيل فهو فعل إرادي قادر على الاحتفاظ بالصور المدركة بالحس ، أو
التأليف بينها ، وإبداع صور جديدة ليس لها وجود حسي ، وإن انتزعت عناصرها المختلفة
من الصور الحسية . ويمتد مفهوم الخيال المنفصل – كما قلنا – ليشمل
كل مراتب الوجود من أعلاها وهو الخيال المطلق أو الخيال الميتافيزيقي إلى أدناها
وهو العالم الحسي . هو الحضرة الذاتية القابلة للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها
كما يقول ابن عربي في النص السابق .
وإذا كان الوجود في تصور ابن عربي في خلق دائم جديد نحن في لَبس منه
] بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَديدٍ [([3]). فالحضرة الخيالية حضرة دائمة مستمرة في الدنيا والآخرة . ويهمنا هنا التركيز على الجانب الميتافيزيقي للخيال الوجودي ، وهو الذي يطلق عليه ابن عربي الخيال المطلق أو برزخ البرازخ . إن هذا الخيال يمثل الحضرة المعقولة التي تجلى فيها الحق بأعيان صور الممكنات . هي مرتبة التمثل الإلهي من الوحدة الذاتية المطلقة إلى التعين المحدود بمراتبه المختلفة . هي الألوهة والعماء وحقيقة الحقائق والحقيقة المحمدية . هو عالم الجبروت المقابل بطبيعته الخاصة لجانبي الإطلاق والتحدد ، والوحدة والكثرة . لذلك كله يعتبر ابن عربي حضرة الخيال أوسع الحضرات ، لأنها تقبل كل شيء بذاتها ، حتى المحال الذي لا يتصوره وجوده . وإذا كان ابن عربي يقيم تفرقة حادة بين الذات الإلهية والعالم ، فإن هذه التفرقة تضيق إلى حد الاختفاء ، وذلك عن طريق هذا الوسيط الكلي الذي ينتظم الوسائط كلها ، إذ من خلال هذه الوسائط يتجلى الحق في صور أعيان الممكنات ، وليست هذه الوسائط – كما سنرى – سوى وسائط خيالية أو برزخية ، باعتبار أن كلاً منها يقابل الحق بذاته وعينه التي بها يقابل الخلق ( فما أوسع حضرة الخيال ، وفيها يظهر وجود المحال ، بل لا يظهر فيها على التحقيق إلا وجود المحال ، فإن الواجب الوجود وهو الله تعالى لا يقبل الصور وقد ظهر بالصورة في هذه الحضرة ، فقد قبل المحال الوجودِ الوجودَ في هذه
الحضرة ) ([4]) .
وإذا كان الوجود في تصور ابن عربي في خلق دائم جديد نحن في لَبس منه
] بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَديدٍ [([3]). فالحضرة الخيالية حضرة دائمة مستمرة في الدنيا والآخرة . ويهمنا هنا التركيز على الجانب الميتافيزيقي للخيال الوجودي ، وهو الذي يطلق عليه ابن عربي الخيال المطلق أو برزخ البرازخ . إن هذا الخيال يمثل الحضرة المعقولة التي تجلى فيها الحق بأعيان صور الممكنات . هي مرتبة التمثل الإلهي من الوحدة الذاتية المطلقة إلى التعين المحدود بمراتبه المختلفة . هي الألوهة والعماء وحقيقة الحقائق والحقيقة المحمدية . هو عالم الجبروت المقابل بطبيعته الخاصة لجانبي الإطلاق والتحدد ، والوحدة والكثرة . لذلك كله يعتبر ابن عربي حضرة الخيال أوسع الحضرات ، لأنها تقبل كل شيء بذاتها ، حتى المحال الذي لا يتصوره وجوده . وإذا كان ابن عربي يقيم تفرقة حادة بين الذات الإلهية والعالم ، فإن هذه التفرقة تضيق إلى حد الاختفاء ، وذلك عن طريق هذا الوسيط الكلي الذي ينتظم الوسائط كلها ، إذ من خلال هذه الوسائط يتجلى الحق في صور أعيان الممكنات ، وليست هذه الوسائط – كما سنرى – سوى وسائط خيالية أو برزخية ، باعتبار أن كلاً منها يقابل الحق بذاته وعينه التي بها يقابل الخلق ( فما أوسع حضرة الخيال ، وفيها يظهر وجود المحال ، بل لا يظهر فيها على التحقيق إلا وجود المحال ، فإن الواجب الوجود وهو الله تعالى لا يقبل الصور وقد ظهر بالصورة في هذه الحضرة ، فقد قبل المحال الوجودِ الوجودَ في هذه
الحضرة ) ([4]) .
وإذا
كانت كلمة ( الحضرة ) في هذا النص يمكن أن تنطبق على الحضرة الوجودية للخيال
المتصل الإنساني ، الذي يقيد الحق بالصورة ، كما تنطبق على حضرة الخيال المنفصل
الوجودي ، فإن ذلك لا يتعارض مع ما نحن بصدده من تحليل الجوانب المختلفة للخيال
المنفصل الوجودي . وإذا كانت حضرة الخيال عموماً – متصلاً كان أم
منفصلاً – لها قوة الجمع بين الإطلاق والتقييد ، لأنها تتصرف في الواجب
والمحال والجائز ، فهي قوة إلهية ، إلى جانب كونها قوة إنسانية . ولا يجب أن يغيب
عن بالنا دائماً أن التفرقة في نظر ابن عربي اعتبارية لا حقيقة .
ويتجلى جانب الخيال الإلهي في كونه قوة بواسطتها
أو من خلالها يتصرف الحق في المعلومات ([5]) . وإذا كان
العالم موجوداً وجوداً أزلياً في علم الله ، فإن عملية إيجاد العالم من حالته
العلمية إلى حالته العينية ، أو من المعقول إلى المحسوس ، إنما تتم عن طريق التجلي
الإلهي في الخيال بمراتبه المتعددة .
ومعنى ذلك أن الخيال المطلق هو القوة الإلهية الخلاقة التي تظهر المعقولات في صور
المحسوسات عن طريق التجلي الإلهي من خلال الوسائط المعقولة المختلفة . والخلق – في ظل هذا الفهم – ليست عملية إيجاد من عدم ، بل هو
نتاج التخيل الخلاق للذات الإلهية . وإذا جاز لنا ان نطبق مفاهيم الخيال المتصل
على الذات الإلهية قلنا أن وجود العالم وجوداً علمياً في العلم الإلهي يمثل حالة
الاتصال في مرتبة الأحدية التي لا كثرة فيها بأي حال من الأحوال ، بمعنى أن العالم
كان موجوداً في الخيال المتصل الإلهي . وحينما انفصل هذا الوجود الخيالي المتصل في
مراتب التجليات المختلفة غير المتميزة زمانياً تحول إلى خيال منفصل هي صور أعيان
الممكنات بمراتبها المختلفة . ومن الطبيعي بعد ذلك أن يشبِّه ابن عربي العالم
بخيال الستارة أحياناً ، ويجعله كله مجرد صور خيالية منصوبة في أحيان أخرى ( فالعالم كله في صور مُثُل منصوبة ، فالحضرة الوجودية إنما هي حضرة الخيال . ثم تُقَسِّم ما تراه من الصور إلى محسوس ومتخيل والكل متخيل ، وهذا لا قائل به إلا من أُشهد هذا المشهد )([6]) . والفارق بين التمثُّل الخيالي الإلهي والخيال الإنساني : أن الخيال الإلهي المنفصل لا يذهب ولا يفنى ، لأن المتخيل نفسه وهو الله باقٍ أزلي . وإذا كان الانتقال من حالة الاتصال في العلم إلى حالة الانفصال الوجودي يتم عن طريق التجليات ، أو التمثلات الخيالية ، فإن هذه التجليات الدائمة نفسها هي التي تحفظ على هذه الصور البرزخية الخيالية دوامها واستمرارها . هذه التجليات أو التمثلات المستمرة هي عملية الخلق الجديد الذي نحن في لَبس منه ، وهي أيضاً شؤون الحق التي لا يدركها سوى قلب العارف الذي يتنوع بتنوع هذه التجليات »([7]) .
[1]
- الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية - ج 2 ص 129 .
[2]
- الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية - ج 2 ص 311 .
[3]
- ق : 15 .
[4]
- الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية - ج 2 ص 312 .
[5]
- الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية - ج 3
ص 525 .
[6]
- المصدر نفسه - ج 3 ص 470 .
[7]
- د . نصر حامد أبو زيد – فلسفة التأويل ( دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي )
- ص51 – 57 .
Tidak ada komentar:
Posting Komentar